علم شيخ الإسلام وعدله
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إمام عجيب جداً، فإنه عندما يعرض الأقوال المخالفة والبعيدة؛ وحتى ما فيه كفر واضح؛ يعرضها بكل عدل، حتى إنه يفاضل بين درجات الكفر، فيذكر أن هذا أكفر من هذا، وهذا أقل كفراً، وكلها كفر، فلا يجور ولا يحيد، وهذا عدل عجيب، وقد أعطاه الله تعالى أمرين: العدل والعلم، ومن أعطي العلم والعدل فإنه لا يجور، فالعلم: أن يعلم ماذا يقول عما يتكلم عنه، فلا يتكلم بجهل، والعدل: ألا يظلم ولا يجور. وآفة الناس -نسأل الله السلامة والعافية- البشرية جميعاً هي ما ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: (( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ))[الأحزاب:72]، وهاتان أسوأ صفتين: الظلم والجهل، فقلة العلم والهوى لا يمكن معهما أو مع إحداهما أن نعرف الحق من الباطل، ولا نعدل، ولا نصدق.. فتختل كل الموازين في الدنيا، فمن أعطاه الله تبارك وتعالى العلم والعدل، وجنبه الهوى، استقام على الحق؛ فإنه يبلغ الكمال بقدر ما يفتح الله تعالى عليه في هذا.فالشيخ رحمه الله يعرض أقوال المعتزلة ، وأقوال الرافضة ، وأقوال الفلاسفة ، ولا يبالي أن يقول: هذا حق، وهذا باطل، وفي النهاية تخرج بحكم لا تملك إلا أن تسلم به، فعندما يحكم عليهم بأنهم كفار، أو بأنهم مبتدعة، أو ضلاّل؛ لا يحكم تشفياً، ولا يأتي بعبارات تشعر بأنه ينتقم فيها من هؤلاء؛ أبداً، وإنما يتكلم بناء على علم وبصيرة بأقوالهم، وما تؤدي إليه، و أن هذه هي حقيقتها، وهذه هي لوازمها، فهم كذلك؛ ولهذا لا يقرأ لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أحد عنده علم ثم يحيد عن منهج السلف الصالح؛ إلا من كان ذا هوى والعياذ بالله.وكثيراً ما كنت أردد هذا وأقوله لبعض الأساتذة والمشايخ الذين تبحروا وتوسعوا في علم الكلام، كبعض من درسونا من شيوخ الأزهر وغيرهم، فهم متبحرون في علم الكلام، لكن لم يقرءوا لـشيخ الإسلام في بلادهم، فنقول لهم: اقرءوا كلامه، ومن كان منكم منصفاً فلا بد أن يرى الحق؛ لأنه لا يترك لك مجالاً إلا ويطرقه.وأضرب لكم مثالاً: فـالجهم بن صفوان لم يكن فيلسوفاً ولا عالماً، وكل ما في الأمر أنه قال كلمتين التقطهما من السمنية وغيرهم، لكن عندما تقرأ كلام شيخ الإسلام فإنك تجده يضبط كلامه، حتى إنك تقول: لعل الجهم نفسه لم يخطر بباله هذا الكلام، فتجد شيخ الإسلام يبين مأخذه، ويذكر له الاحتمالات، ويسهب ويطيل في ذلك، ويوضح هذه لذاتها بغض النظر عن الجهم ؛ لأنه قد يقول بها إنسان آخر، ويئولها ويفلسفها بهذه الفلسفة الطويلة، فقد يأتي جهمي في آخر الزمان ويقول: أراد الجهم كذا وكذا.. ويأتي بمعاني طويلة جداً، فـشيخ الإسلام يقول لك: تقول الجهمية كذا، وإن قالت كذا فالرد يكون بكذا، وقد يقولون كذا.. ويعرض شيئاً لا يخطر ببال المدافع عنهم، ثم ينقض هذا الكلام كله جملة وتفصيلاً.فرضي الله تعالى عنه، ورحمه، فما أعدله، وما أنصفه! ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم العدل، وكلمة الحق في الغضب والرضا؛ إنه سميع مجيب.